تسجل الان لتحميل الملصقات ، و شارك أفكارك.
الاسم الكامل
كلمة السر
كلمة السر يجب أن تتعدى ٦ أحرف.
تأكيد كلمة السر
أوافق على شروط الاستخدام
أدخل جميع الحقول الالزامية
اسم المستخدم (البريد الإلكتروني)
كلمة السر
Linkedin

 

تقديم
الملصقات بوصفها أسلحة

فوّاز طرابلسي


سؤال: لماذا نتذكَّر حرباً أهليّة؟ جواب: كيلا تتكرَّر. سؤالٌ آخر أكثر صعوبةً: ما الذي يتوجب تذكُّره من حربٍ أهليّة؟ بالتأكيد، لا يمكن تذكّر كل الأمور. لكنّ الأمر يقتضي ذكر أمورٍ عديدة، وبصورةٍ رئيسية الأسباب والدروس. ومع ذلك يتوجَّب نسيان أمورٍ كثيرةٍ أخرى. نعم، نسيان. فأنت لا تستطيع أن تنسى إلا ما تعرفه. إذن عُد إلى الذاكرة. النسيان أمر، أمّا فقدان الذاكرة فأمرٌ آخر.
كان فقدان الذاكرة طاغياً، على المستويين الشعبي والرسمي، في لبنان ما بعد الحرب. فقدان الذاكرة الجمعي كما هو حال فقدان الذاكرة الفردي، شكلٌ من أشكال كبت الذاكرة يتضمَّن عدداً من الميكانيزمات (الأوالات) المعقَّدة. فهو يلجأ لتمزيق الروابط بين أحداثٍ متذكّرة وإلى طرائق الاستبدال والتكثيف والنقل على نحوٍ مشابهٍ تماماً لطرائق عمل الأحلام. يجري تصوير الحروب اللبنانيّة (١٩٧٥-١٩٩٠) في الخطاب المهيمن والكابت للذاكرة على شكل «حرب الآخرين» أو، على نحوٍ مخفَّفٍ أكثر، حرب «في سبيل الآخرين». بهذه العمليّة، يكثّف فقدان الذاكرة سببيَّةً متعدّدةً في سببٍ واحد، تحوّل الذنب وتحجب سرد الذاكرة والتنكُّر.
اختزلت خمسة عشر عاماً بمسمًّى وحيد، «الحرب اللبنانيّة»، يكفيه غرابة إطلاق صفة «لبنانيّة» على الحرب في حين أنّ أسبابها والمتحاربين فيها تعتبر جميعاً خارجيّةً أو منسوبةً لعواملَ خارجيّة. بل أسوأ من ذلك، سرعان ما ألبست سنوات القتال الطويلة وحمّامات الدم والنزوح والمعاناة لبوس كارثةٍ طبيعية، لنقل زلزالاً. هكذا، يجري تصوير إعادة الإعمار لما بعد الحرب، بما هي «إعادة إعمار» مركز تجارة عالمي وسط بيروت، رمز انبعاثٍ سحريٍّ لعصر متألّق من الازدهار الاقتصادي والتعايش الطوائفي. يفصل فقدان الذاكرة مجدَّداً الأسباب عن النتائج، ويحجب السؤال العفويّ البديهيّ: إن كانت مرحلة ما قبل الحرب «عصراً ذهبيّاً»، فلماذا أنتجت مثل هذه الحرب المروّعة؟ تعود الإجابة النافلة: ما من علاقة بين الاثنين؛ كانت «حرب الآخرين». كيف نجح الآخرون في دفع اللبنانيين إلى شنِّ «حروبهم» بمثل هذا الحماس وقتل الكثيرين من بينهم (اللبنانيين) من «أجلهم» (الآخرين)؟ تتواصل الحلقة المفرغة دون توقُّف.
لهذه الأسباب، ولأسبابٍ أخرى، فإنّ فقدان الذاكرة، وإن تظاهر بأنه شفائي، إلا أنه مرضي بامتياز. وخلافاً لظاهر تخفيفه عن مريض الذكريات الدموية والحوادث الرضيّة، فهو يفعل العكس: يحكم على المريض أن يعيش ذلك «الماضي» الرَضيّ وإعادة تمثّله بما هو «حاضرٍ مستمر». لهذا، كان عيش سنوات ما بعد الحرب مشابهاً لـ«حربٍ أهليّةٍ باردة»، في انتظار «عودة» نسختها الأصليّة.
إنجاز زينة معاصري البارز في كتابها الأول هذا هو رسم الخطوط الفاصلة بين الذاكرة وفقدان الذاكرة. تدبّرت المؤلِّفة بأناةٍ ودأبٍ وقَدْرٍ كبيرٍ من الموهبة أمر جمع وتوثيق وأرشفة مئاتٍ من ملصقاتٍ أصدرها شتّى الأفرقاء خلال حروب لبنان. وما يضفي قيمةً إضافيةً على المساهمة البارزة في الذاكرة الجمعيّة هذه، أنّ من أخذها على عاتقه هو فردٌ شجاعٌ وحيد، في وقتٍ نأت مؤسّساتٌ ومنظّماتٌ غير حكوميّة بنفسها عنها.

غير أنّ زينة معاصري فعلت ما هو أكثر من ذلك بكثير. قامت بتحليل الملصقات شكلاً ومضموناً، مكيّفةً على نحوٍ نقديٍّ عدداً من الأدوات النظريّة لهذا الغرض.
بدايةً، وضعت الملصقات في السياق، وأرّخت جزئياً، لأن التأريخ يبقى الترياق الشافي لفقدان الذاكرة. لم تقع معاصري في فخٍّ غالباً ما يقع فيه محلِّلو المضمون، الذين يفترضون وجوب وجود «خطابٍ مهيمن» دوماً ينبغي السعي وراءه. فهي تحلِّل تعدّدية خطاباتٍ تتحوَّل وتغيّر أشكالها من مزاعمها الحداثية الأولى إلى عُري ذواتها الطائفيّة والانتمائية الأخيرة.
كذلك كانت المؤلِّفة حريصة على التفريق بين ملصقات حربٍ أهليّة وبين ملصقات البروباغندا الحربيّة. وعلى الرغم من حقيقة أنّ الملصقات الأولى تحوي عناصر من البروباغندا، إلا أن رسائل البروباغندا هذه أقلُّ اهتماماً بتدمير العدوّ وإضعاف معنويّاته من اهتمامها بتعزيز نرجسيةٍ جمعيّةٍ وتعبئتها لخلق مبرّراتٍ إضافيةٍ للموت. والحال أنه نادراً ما يرتدُّ المرء في حربٍ أهليّةٍ فينضمّ إلى المعسكر المقابل. ربما يفرّ من القتال، لكنك لا تتوقّع ارتداد المقاتل إلى صفّ «العدوّ»، طالما أنك لن ترتدَّ، لأن مصيرك في الحالتين هو الموت. يعبّر منطق القبيلة عن هذه الحال بالمثَل القائل «الدم لا يصير ماءً».
تقول الملصقات الكثير عن الحرب.
في هذا الكتاب، تتحدَّث الحرب بصورٍ وكلماتٍ تمتدح زعماء غائبين، وتنتظر أوبتهم، وتتنافس الميليشيات في المطالبة بالمناطق المتنازع عليها، أو بالوطن برمَّته. وبقدر ما يتقلَّص «وطن» كل فريق من الأفرقاء، يتّسع فضاؤه الديني-القبلي، وبقدر ما يتفجّر هذيان العنف والهويّة.
مجدّداً، توضع الملصقات في سياقها من أجل تقديم خلفيّةٍ لتطوّر فنّ الملصق العربي، وعلى نحوٍ خاصٍّ التجربة الفلسطينيّة-اللبنانيّة المشتركة، ويجري التفصيل في المنتجين والمموّلين، والفنّانين، وفي تشكيلة خبرات صنع الملصق.
أخيراً، لم يغب عن زينة ملاحظة تدهور الملصق جماليّاً وفنيّاً حين خلعت الطوائف الدينيّة القبائليّة ثوب حداثتها وارتدت الأزياء العسكريّة الموحِّدة للهُويات القاتلة.

الحروب الأهليّة هي الميدان المثالي للرمز. تضخِّم الحروب الأهليّة المديدة وغير الحاسمة من شحنتها الرمزيّة حين تعجز المعارك خائبةً عن التقدّم أخيراً إلى مرحلةٍ نهائيةٍ تقرّر انتصار طرفٍ وهزيمة الآخر. يتضمّن النزاع حينها جرعةً إضافيةً من المبارزات الرمزيّة حيث تتضاعف الوظائف غير العسكريّة للعنف. تهدف مثل هذه المبارزات إلى إيقاع أكبر قَدْرٍ ممكنٍ من الجروح الرمزيّة «بالآخر». ابتكر محازبو الحروب الأهليّة اللبنانيّة وسائلَ عديدةً لإيقاع مثل هذه الجروح؛ المبارزات الكلامية بالشتائم والسباب عبر خطوط التماسّ (منقولة بمكبّرات الصوت أو الهواتف أو أجهزة اللاسلكي النقّالة)؛ الرسومات والكتابات العدوانية على الجدران؛ تدنيس الأماكن المقدّسة؛ الاختطاف؛ المعاملة المُذِلّة عند حواجز التفتيش؛ ناهيك عن الاغتصاب، الذي يبدو، على نحو لافت، أنه كان ظاهرةً محدودة في الحروب اللبنانيّة. ونقول عن هذه الأشكال الثلاثة الأخيرة من العنف على أنها رمزيّةٌ بمعنى أن التسبُّب في الأذى الجسدي للفرد فيها يعدّ أذىً رمزيّاً للجماعة بأكملها.
هنا، لا ينفصل الرمزيُّ إطلاقاً عن الفعل نفسه. يشحن الرمزيُ الفعلَ بدافعٍ إضافيٍّ. الآن، توجِّه «شخصنة العدوّ» صيد القنّاصة، حيث «قتل أيٍّ منهم» يعادل «قتلهم جميعاً»؛ ويتطلّب تدنيس منطقة مقدّسة، أحياناً كثيرةً عبر القدّيسة والأولياء، تطهير تلك المنطقة بالدم والنار ممَّن دنّسوها. فقد كانت الحروب اللبنانيّة رياديةً في التطهير العرقي.

الملصقات، كما عرفّتها معاصري على نحوٍ متقَنٍ بوصفها «مواضع رمزيّة للصراع السياسي»، سرعان ما تتحوّل إلى مواقعَ رمزيّةٍ للصراع العسكريّ.
يتحدّث مؤرّخ الفنّ الألماني هورست بريديكامب عن «حيويَّة» الصور في نظريّته حول الصورة-الفعل، Bildakt (١). فهو يفترض أنّ الصور لا توضح أو تُزيِّن فقط. إنها تظهر دوماً في أشكالٍ جديدةٍ «مفعمةٍ بالحياة» وبهذا تكتسب دوراً «انعكاسياً». لا أعلم إلى أيّ حدٍ يمكن تطبيق نظرية بريديكامب على التمثيلات البصَريّة كافّةً. لكنّ أمراً واحداً يبدو مرجّحاً جداً: تهيئ نظرية الصورة-الفعل لإقامة علاقةٍ يبن الفنّ والحرب، بين الصور والعنف، حيث يمكن للصور أن تصبح بدائل للفعل الحقيقي أو للإنجازات الحقيقيّة.
ما من عجبٍ إذن في أن يوضح بريديكامب نظريّته بأمثلةٍ عن أشكال عنفٍ تستثيرها الصور. فهو يذكّرنا، على سبيل المثال، بصورةٍ شهيرةٍ لمتمرِّدٍ يسدّد حربةً إلى صورة تشاوشيسكو، ولأنه لم يستطع أن يمسك مباشرةً بوجه الدكتاتور الرومانيّ، وجّه فعله العقابي إلى الصورة. ومنذ عهدٍ قريب، بثّت وكالات الأنباء صورة متظاهرين مصريّين يطأون صورةً كبيرةً للرئيس حسني مبارك أثناء الإضراب العامّ في السادس من أيار / مايو ٢٠٠٨ احتجاجاً على غلاء كلفة المعيشة.
يوميّاً، تمزّق الملصقات في شوارع مدن العالم بأيدي أشخاصٍ يعترضون على الرسائل التي تعرضها. لكن قد لا يكتفي المرء بجرح ملصقٍ بسكّينٍ أو حربة، قد يقتضي الأمر محاولة قتل الملصق.
في كل يوم يهاجم مخبولون أعمالاً فنّيّة، بطعن قماش لوحة أو تشويه جداريّةٍ أو تمثالٍ لأسبابٍ تبقى في معظمها شخصيّةً ومَرَضيّة. لكنّ أعمالهم تشكّل الاستثناء الذي يثبّت القاعدة الجماعية. إذ لم يقم المتمرّد الروماني أو متظاهرو القاهرة بأعمالٍ فردية، بل شابهوا إلى حدٍّ بعيدٍ أناساً منهمكين باغتيال سياسيٍّ.
يمكن للصور واللوحات، بأوسع معنىً للكلمة، أن تكون شديدة الخطر إلى درجة أنها تحتاج إلى حرّاسٍ وموادّ لا يخترقها الرصاص لحمايتها من العنف. فلوحة الغيرنيكا لبيكاسو لا تزال تُعرض من خلف قفصٍ زجاجيٍّ سميك في ملحقٍ لمتحف برادو في مدريد، بعد نصف قرنٍ من الحدث الذي دفع الفنّان لإبداعها. ويسهر على حراستها عنصرٌ مسلّحٌ من الحرس المدني. تُحرس جداريّة بيكاسو في عقر دارها من خطرٍ من نوعٍ آخر، إنها تُحرس في الحقيقة من مخبولٍ ينشط باسم مجموعةٍ عانت من «جروح ذاكرة» لم تشفَ منذ الحرب الأهليّة الإسبانية ١٩٣٦-١٩٣٩!
أثناء كتابتي لهذه الكلمات، أرسل لي صديقٌ فلسطيني صوراً التقطها أثناء تجواله في منطقة نابلس لملصقات لا تزال معلّقة وسط قرية عقربة، تظهر الارتكاس المتعارض لذاكرة الفلسطينيين عن صدّام حسين. في ثلاثةٍ من تلك الملصقات، يظهر الدكتاتور في وضعيّة قتالية: في واحدٍ منها ألبس زيّاً عسكريّاً، وفي الآخرين نشاهده يطلق النار من بندقيّة كلاشنكوف. في أسفل أحد الملصقات، يوصف صدّام بأنه «ابو الشهداء، الزعيم، المجاهد، الشهيد: صدّام المجيد». يخال المرء أنّ البلديّة هي التي علّقت الصور أو بعض الوجهاء النافذين. لكنّ ذلك لم يمنع فلسطينيّين يحملون فكرةً معاكسةً عن الدكتاتور العراقي من صَلْيِ الملصقَينِ بالرصاص وتحويلهما إلى ما يشبه الغربال.
يقال الشيء نفسه عن سائق الدبّابة العراقي الذي وجّه، أثناء انسحابه من الكويت في العام ١٩٩١، مدفع دبابته لبعثرة جدارٍ يحمل بورتريه لصدّام حسين في مدينة البصرة الجنوبية. أطلق هذا العمل الرمزي شرارة انتفاضةٍ خاضها عشرات آلاف العراقيين في الجنوب في مواجهة نظام بغداد. من الواضح هنا أنّ سائق الدبّابة لم يكن بوسعه التنبّؤ بمفعول عمله، فلم يكن ردُّ فعله العنيف إلا استجابةً لتحدّي الحضور البصَري المحض لرجلٍ اعتبره مسؤولاً عن القمع الدموي والإذلال الهائل الذي عانى منه شعبه.
تحكي الحروب الكثير عن الملصقات.
ولكن لو لم تكن الملصقات تفرز مثل هذه الجرعة الكبيرة من التحدّي، فلماذا تستثير ردود فعلٍ بهذا العنف؟
قدّمت لنا زينة معاصري في قراءتها للحرب من خلال الملصقات وقراءتها للملصقات في ضوء الحرب، طريقةً أخرى للنظر إلى الملصقات: الملصقات بما هي أسلحة.

 

 

(١) Bredekamp, Horst, ‘Bildakte als Zeugnis und Urteil’, in Monika Flacke (ed.), Mythen der Nationen. 1945 – Arena der Erinnerungen, Vol. I (Mainz, 2004).

book
ملامح النزاع : الملصق السياسي في الحرب الأهلية اللبنانية
زينة معاصري
تقديم فواز طرابلسي

ترجمة عماد شيحا
مراجعة بيار أبي صعب

رقم الإيداع الدولي : 5-74-417-9953-978
مراجعات
ملصقات الحرب إن حكت
اقرأ المزيد
هشام صفي الدين، جريدة الأخبار، ٢٨ آب ٢٠١٠
الصورة فى حرب لبنان‏...‏ ساحة للصراع وليست أرشيفاً للبراءة
اقرأ المزيد
سيد محمود حسن، الأهرام، ٢٨ آب ٢٠١٠
الحرب اللبنانية «الأهلية»... بملصقاتها المتقلبة
اقرأ المزيد
موريس أبو ناضر، جريدة الحياة، ١٦ نيسان ٢٠١٠
ملامح النزاع
زينة معاصري

الطبعة الأصلية بالانكليزية، أي. ب. توريس لندن ٢٠٠٩